تقديم
أيقظتني سميرة زوجتي على نداء هاتفي من الزميلة العزيزة باكزة أمين خاكى تطلب منى أن أقرأ ديوانها وأضع له التقديم ، فقد كان طلبها هذا حلماً تمنيناه أن يحدث منذ أربعين عاماً
.
فقد كنا في فوج الصفوة أو الدفعة السابعة التى شملت أبرز الشباب من الدول العربية عامة فى مركز اليونسكو بسرس الليان حيث ضم العلماء والشعراء والفنانين التشكيليين والسينمائيين والمسرحين وكنا دوماً نجتمع حول مسرح المركز لنشاهد إنتاجاتنا من الفن والمسرحيات التراثية والحديثة والشعر بألوانه المتعددة وفى خضم هذا الزخم من الفنون كنا نصمت كلنا ونكتم أنفاسنا حينما تصعد على المسرح شاعرتنا العراقية الأصل المصرية الجنسية الأستاذة باكزة وكلنا يخشى أن يفوت منا حرف واحد مما تقول
.
فقد كان أسلوب إلقائها يتناغم مع المعاني المعبرة في قصيدتها وكان إلقائها وحفظها لشعرها يبهرنا ويشدنا إليها وكم تحاورت مع صديقي الدكتور قدري العربي - ونحن الاثنان - نقرض الشعر- عن عشرات القصائد التي كانت تلقيها في مناسبات شتى بأسلوبها البسيط وكلماتها العامة التي تصبها في قالب شعري جميل في الوقت الذي نعجز فيه -نحن الاثنان- من وضع شطر من بيت لعدة أيام
.
وباكزة حينما اختارتني لتقديم ديوانها " غداً نلتقى " فقد اختارتني عن ذكاء فبالإضافة إلى أنني من المعجبين بشعرها الرقيق البسيط - فإنها تعرف أنى من هواة الشعر عامة والرسم والموسيقى
.
وبهذا فقد أرادت أن تضع أمامي ديوانها لكي أرى فيه الإبداع في الكلمة على بساطتها ورقتها
.
وأرى الصورة الشعرية المجسمة التي اشتهرت بها قصائدها مع التناغم الموسيقى الجميل
.
فباكزة حينما تكتب شعراً ترسم لك صورة طبيعية لتراها - وأنت تقرأ- كأنها لوحة فنان
.
فتراها في قصيدتها "بغداد" التي تحن إليها بعد غياب عشرة أعوام عكفت فيها على تربية أولادها ومتابعة دراستهم قالت حينما
خيروها في اختيار قصراً على نهر السين في باريس :
قلت لهم كوخاً في جانب الكرخ
تـحرسه نخلة
تحيطه الدفلـه
كوخٌ على دجلة مبنى من الطين
هذا التصوير الرائع يجعلك - عزيزي القارئ- ترى هذا الكوخ في موقعه على نهر دجلة وطنها الأصلي
.
مع أنها اجتازت الإقليمية في جميع أشعارها فهي دائماً تقول وفى كل مناسبة " أنا عربية عراقية المولد " وهذا الاعتزاز بوطنها العربي الكبير ألهمها كثيراً من القصائد التي تنطق بالانتماء والأصالة ففي قصيدتها " أرض الجزيرة " تقول :
هيهات أن أرضى بديلك موطناً
شُل الفؤاد إذا هويت سواك
وقد قال عنها الدكتور أحمد العزاوى في رسالته المقدمة ألي جامعة بغداد عن " دراسة وجمع وتحقيق " لديوان باكزة أمين خاكى :-
"أن أول ما يطالعنا في لغة الشاعرة باكزة البساطة وذلك يعنى أنها لا تتكلف كثيراً في تقصى مفردات وتراكيب قصائدها الشعرية ولا تبحث عن المفردات الفخمة التي يكتنفها الغموض وإنما تنساق المفردات على سجيتها وعلى ما تمليه أحاسيسها الشخصية
.
فهي على الرغم من قصائد الحب والوجد كما جاء في قصائدها " وحدي ,عتاب , سؤال
. دمعتي" لم تستطع التعبير عما يدور بداخلها صراحة ولم تتخطى دائرة الحب العذري المحافظ على كرامة المرأة وشخصيتها
.
ذلك الحب الذي يلائم طبيعة المرأة الشرقية عامة والعربية خاصة "
.
فأنت حينما تقرأ شعر شاعرتنا تجده يبحث في أمرين نابعين من إحساسها الشخصي
.
الأول :-
هو الشعر العاطفي - الذي كانت تعبر عن أعماق ما بداخلها بكل بساطة وعفة
.
وقد تأثر هذا كثيراً بعد فقدها لوالدها الذي كانت متعلقة به كثيراً،
والأمر الثاني :-
هو الشعر القومي الذي عبرت فيه عن حبها لوطنها الكبير
.
فقد كانت
تنتهز أية مناسبة لتعبر عن حسها القومي المثقل بالقهر فتارة تعبر عنه صراحة وأخرى تقولها بتهكم على الأوضاع كما فى قصيدتها " لسنا عبيداً " :
ناموا رعاة القوم لا تستيقظوا
فالذئب تألف طيبة الأغنامُ
حيوا رجال الحكم في أبراجهم
فإليهم من منعمين سلامُ
وهذا ما عرضها لمشاكل كثيرة كالمسائلة والاعتقال والمحاكمة
.
وقد ذكر النقاد بأنها كثيراً ما تستعمل فعل الأمر فى قصائدها وقد برر هذا الدكتور أحمد العزاوى في دراسته عنها " بأن فعل الأمر في شعر باكزة نابع عن تربيتها في ظل والدها أمين خاكى وهو القائد الكبير في الجيش ، ومن مؤسسي الجيش العراقي " ولكنى أرى أن الأمر في شعرها لا يعدو أن يكون أقرب للرجاء والتوسل فهي في قصيدتها " حدثيني " تطلب من الوردة أن تحدثها لتبدد عليها وحشة الصمت الذي يحيط بها فتقول :-
" حدثيني حلوة أنت كأحلام الشباب"
وفى قصيدتها " أحاديث صيف " حينما تقول للصحبة وللأيام الجميلة أن تعود فهي تتوسل إليها وتغريها بالعودة فتقول :
عودي فقد شيد القمري أيكته
وأختار للعش نسريناً وريحاناً
أما في قصيدتها " صرخة الأحرار " فقد كان الأمر فيها من باب الثأر لما عانته من القهر قبل الثورة فتقول :-
خضب ذراعك في دم الفجار
ثم انطلق لتحيـة الثـوار
ثم إتجهت الشاعرة بعد كل هذا العناء وبعد زواجها من الزميل المهندس سمير عثمان خريبة المصري الجنسية والخبير بالأمم المتحدة إلى الاعتكاف على تربية الأولاد وصبت كل اهتماماتها على بيتها وأولادها حتى أن شعرها أخذ يتسم بهذا اللون الذي يحلو لي أسميه " شعر الأمومة" ففي قصيدتها " لن أقطف القمر" وصلت إلى قمة الروعة في التعبير عن مشاعر الأمومة حينما طلبت منها صغيرتها أن تقطف لها القمر قالت :-
عنيدة صغيرتي مصرة أن أقطف القمر
وما درت بأنها في بيتنـا هي القمـر
أما في قصيدتها "رسالة أم" و التي وجهتها إلى ابنها المتجه نحو منصة القضاء حينما تنصحه وتوجهه بحزم فقد قالت :-
فغداً ستكون بها حكماً مـا بين الصـالح والضـر
فأحكم بالحق ولا تخشى وأضرب بعصاك قوى الشر
سلمت يمناك متى عدلت وجـزاك المنعـم بالخـير
هذه هي شاعرتنا التي منحتني هذه السعادة في تقديم ديوانها الأول وأنى مهما كتبت لا أصل إلى ما قاله فيها الكاتب العراقي المعروف مصطفى خيرو حيث قال في إحدى مقالاته " أن الشاعرة باكزة بالإضافة إلى سمو شعرها لها مواقف وطنية خالدة أيام الوثبة مما يكفيها فخراً وعزةً"
.
أو كما قال الشاعر العراقي في قصيدته " وكل فتى أخوك" رداً على قصيدتها " غداً نلتقى " في رثاء والدها مشيراً إلى موقفها البطولة في أروع وثبة طلابية شهدها تاريخ العراق الحديث قبل ثورة تموز - يوليو - المجيد حين قال :-
وثبت وكنت كالأسـد الـمراعى
وقلت فدون قولك كل داعٍ
وكنت مثـال ما نـرجو و نبغي
من الغيـد المبجلـة الطبـاع
فلا تـهـني ولا تبكــى لبيـنٍ
ولا تذرى الدمـوع ولا تراعى
وما من شك أن هذه المعاناة كانت مدعاة للإنتاج الوفير من شعرها الرقيق القوى فصلابة الشاعرة هنا نتاج لهذه المعاناة فلا يتكون الماس إلا من خلال الضغوط والحرارة الشديدة في باطن الأرض
.
وفى غمرة بأسنا من تسجيل هذا التراث الشعري خصوصاً الإنتاج النسوى الذي نفتقر إليه - ينبعث الأمل فينا حينما عزمت شاعرتنا على إصدار ديوانها " غداً نلتقى " ومع سعادتي بأن يقع على الاختيار في تقديم الديوان فإني أغتنم الفرصة وأتقدم بالتهنئة إلى كل زملاء سرس الليان والخبراء ، والى الشعب العراقي الشقيق فهؤلاء الأعلام يمثلون روح الأمة التي يجب أن تبقى حية وقوية فالشعوب التي تفقد صلتها بتراثها الوطني و الثقافي تضيع في زحام الحياة
.
أطال الله في عمر شاعرتنا ومنحها موفور الصحة والعافية .
الدكتور لطفي السيد عبد العظيم زاهر
المستشار الدولي في الأمم المتحدة
|